عودة السياسات الصناعية

هذه العودة للسياسات الصناعية تمثّل تحولاً مهماً على مستوى السياسات الحكومية. فلا طالما كانت السياسات الصناعية محل انتقاد من قبل العديد من الاقتصاديين الذين وصفوها بالمعاكسة لمفهوم اقتصاد السوق الحر. حيث يرى نقّاد هذه السياسات أن الحكومات لا تملك المعلومات الكافية التي تمكّنها بشكل فعّال من تحديد ودعم قطاعات وكيانات بعينها دون إحداث تشوهات في الاقتصاد. فالحكومات، بنظر النقّاد، لا يجب أن تختار الرابحين في الاقتصاد (“Governments cannot pick winners”)، بل يجب أن تدع السوق أن يحدد كيفية توزيع الموارد بناءً على تفضيلات المستهلك والتقنيات المتاحة. من جهة أخرى، تبنّي هذه السياسات يزيد من احتمالية السيطرة عليها من جهات ذات مصالح خاصة، أو كما يعرف في أدبيات السياسات العامة ب(Political Capture) أو (Regulatory Capture).

لكن الخلل في سلاسل الإمداد نتيجة وباء كوفيد ١٩ وتفوّق الصين الصناعي عن طريق توجيه الحكومة للاقتصاد قاد العديد من صناع القرار والاقتصاديين إلى إعادة النظر في السياسات الصناعية كأداة فعّالة لتطوير العديد من الصناعات الحيوية والتنمية الاقتصادية المستدامة. قدّمت العديد من الأبحاث الحديثة صورة أدق عن مدى فعالية هذه السياسات وكيفية إدارتها والظروف المثلى لاستخدامها. حيث قامت هذه الأبحاث بدراسة العديد من التجارب الناجحة خصوصا ما يسمى بمعجزة شرق آسيا التي شهدت نمواً اقتصادياً هائلاً عن طريق استراتيجيات صناعية قادتها حكوماتها لتطوير عدد من الصناعات التي زادت من تنافسية وانتاجية هذه الدول والتي استمر أثرها الاقتصادي والاجتماعي حتى هذا اليوم. فتطوير صناعات كاملة يتطلب قدر عالي من التنسيق بين العديد من الجهات وتطوير لصناعات مكمّلة حيث لا يمكن الاعتماد في هذه الحالات فقط على قوى السوق (Market Forces) بل يجب وجود تدخل حكومي فعال لضمان ذلك.

لكن على الرغم من التحول الإيجابي تجاه السياسات الصناعية، لازال هناك قلق من التبعات الجيوسياسية والاقتصادية على العالم نتيجة التبنّي المتسارع لها. فمنذ بداية القرن العشرين، كان هناك إيمان تام بأهمية التعاون الاقتصادي بين الدول وترابط سلاسل الإمداد لتجنّب الصراعات بين الدول وضمان السلم العالمي. تبّني السياسات الصناعية يعني انحسار هذا النظام وزيادة وتيرة التنافس بين الدول مما يزيد من احتمالية الصراعات الدولية. من ناحية أخرى، العديد من الدول النامية ستكون متضررة من هذا التطور حيث وجودها ضمن سلاسل الإمداد العالمية ساعدها على تنمية اقتصاداتها. تراجع هذا النظام من شأنه الإضرار بالعديد من الدول النامية التي لا تملك القدرة المالية على تبني سياسات صناعية مشابهة.

مشاركة المنشور: