لطالما كانت خيارات المستهلكين تلعب دوراً رئيسياً في تحديد نجاح الشركات والمنتجات والخدمات. إلا أن السياسات الحكومية بدأت الآن في ممارسة تأثير أكبر على الصناعات ونتائج السوق. يظهر هذا التحول بوضوح في صناعة السيارات، التي تمر حالياً بتحولات كبيرة. تقنيات جديدة ومتطلبات تنظيمية تفرض تحديات على اللاعبين التقليديين وتعيد تشكيل سلسلة القيمة العالمية.
هذا التحوّل يمثل فرصة للمملكة العربية السعودية لتثبيت مكانتها كلاعب رئيسي إقليمياً وعالمياً في سلسلة القيمة لصناعة السيارات. حيث تعتبر صناعة السيارات واحدة من القطاعات الاستراتيجية التي تستهدفها المملكة في سعيها لتحقيق التنوّع الاقتصادي.
المتطلبات التنظيمية وواقع السوق
يظهر التصادم بين قوى السوق والسياسات الحكومية بوضوح في السياسات الخاصة بالسيارات الكهربائية (EV) التي تتبناها عدة دول لإلغاء استخدام سيارات الاحتراق الداخلي (ICE). فقد استهدفت المفوضية الأوروبية إنهاء مبيعات سيارات الاحتراق الداخلي بحلول عام 2035، بينما أعلنت المملكة المتحدة سياسة تتطلب أن يكون 80% من السيارات الجديدة و70% من الشاحنات الصغيرة الجديدة التي تباع خالية من الانبعاثات بحلول عام 2030، وترتفع النسبة إلى 100% بحلول عام 2035. أما في الولايات المتحدة، فقد استهدفت إدارة بايدن أن تكون 50% من مبيعات السيارات كهربائية في عام 20301.
لتسهيل هذا الانتقال، تقدم الحكومات حوافز كبيرة لكل من المنتجين والمستهلكين. في الولايات المتحدة، تمنح مصلحة الضرائب الأمريكية (IRS) المشترين دعم يصل إلى 7500 دولار لشراء السيارات الكهربائية بين 2023 و2032.2وبالمثل، قدمت اليابان تخفيضاً ضريبياً لمدة 10 سنوات لمصنعي السيارات لتسريع إنتاج السيارات الكهربائية والهجينة (PHEVs). ضمن هذا البرنامج، تقدم الحكومة إعانات تصل إلى 850,000 ين (حوالي 5600 دولار) للسيارات الكهربائية و550,000 ين (حوالي 3600 دولار) للسيارات الهجينة، بهدف التأكد من أن جميع مبيعات السيارات الجديدة ستكون كهربائية بحلول عام 2035.3.
ومع ذلك، يواجه هذا التحول إلى السيارات الكهربائية تحديات كبيرة حيث لا يزال الطلب ضعيفاً لأسباب عديدة منها ارتفاع أسعارها وقلة اعتماديتها ومداها المحدود. حيث أعلنت شركة ستيلانتس، الشركة الأم لعلامات تجارية مثل جيب وكرايسلر وفيات، عن انخفاض بنسبة 20% في تسليم السيارات في الربع الثالث من عام 2024.4دفع ذلك شركات تصنيع السيارات إلى تقليص أو إعادة النظر في استراتيجيات إنتاج السيارات الكهربائية. على سبيل المثال، أجلت شركة فورد إنتاج شاحنتها الكهربائية F-150 Lightning لبضعة أسابيع وقللت من نوبات العمل في مصنعها في ديترويت.5
في ضوء هذا الواقع، تعالت الأصوات داخل الصناعة داعية لمراجعة الأهداف المحددة للسيارات الكهربائية، حيث صرح الرئيس التنفيذي لشركة BMW، أوليفر زيبسي، في قمة السيارات في باريس في أكتوبر الماضي بأن خطط الاتحاد الأوروبي “لم تعد واقعية”، محذراً من أن المتطلبات الحالية ستؤدي إلى “انكماش هائل” لصناعة السيارات في أوروبا.6وبالمثل، كتب مجموعة من قادة السيارات في المملكة المتحدة رسالة إلى وزيرة المالية يحذرون من أن “سوق السيارات الكهربائية يبدو أنه سيخفق في تحقيق هدفه”، وأن المتطلبات الحالية تضع ضغطاً هائلاً على الصناعة.7.
تصاعد المنافسة العالمية وظهور السياسات الحمائية
تزايد تعقيد المشهد في سوق السيارات مع الصعود الهائل شركات السيارات الكهربائية الصينية. في تغيير كبير العام الماضي، تجاوزت الصين اليابان لتصبح أكبر مصدر للسيارات الجديدة في العالم،8مدفوعة بجهود مصنعيها في الوصول الى أسواق جديدة بعد تشبع سوقها المحلي. تنتج الشركات الصينية الرائدة، مثل BYD، وNio، وChery، سيارات كهربائية متقدمة بتكاليف أقل بنسبة 30% تقريباً مقارنة بمصنعي السيارات الأوروبيين، وفقاً لما قاله كارلوس تافاريس، الرئيس التنفيذي لشركة ستيلانتيس.9إلى جانب مزايا التكلفة، تتميز السيارات الكهربائية الصينية بتقنيات متطورة، مما يعظّم تنافسيتها في الأسواق العالمية.
أصبحت التهديدات للشركات المصنعة التقليدية محسوسة حتى في أسواقها المحلية. حيث تفكر فولكس فاجن لأول مرة في تاريخها البالغ 87 عاماً في إغلاق ثلاثة مصانع في ألمانيا وتقليل قوتها العاملة بنسبة 10%. كما تتعرض شركة ستيلانتس، التي تمتلك علامات تجارية مثل أوبل وفيات وبيجو، لضغوط متزايدة من نقابات العمال والسياسيين للإبقاء على مصنعها في إيطاليا مفتوحاً رغم تراجع المبيعات. في الوقت نفسه، تقوم العديد من الشركات الفرنسية من نقل خطوط إنتاجها في فرنسا إلى مناطق ذات تكاليف أقل مثل المغرب وتركيا.8.
أدى هذا التطور إلى تبني الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة تدابير حمائية تهدف إلى حماية صناعات السيارات المحلية، حيث أعلنت الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا العام فرض ضرائب بنسبة 100% على واردات السيارات الكهربائية من الصين. واتخذت المفوضية الأوروبية خطوة مماثلة، حيث أعلنت عن رسوم على السيارات الكهربائية المستوردة من الصين تصل إلى 45%. اتخذت المفوضية الأوروبية هذه الخطوة بعد تحقيق أظهر أن الصين “تستفيد من دعم غير عادل” مما يسبب “ إضرار بمصنعي السيارات الكهربائية في الاتحاد الأوروبي”.10.
ومع اعتراف العديد من شركات السيارات بهذا التهديد، فإنها تطالب الحكومات بالحذر من اتخاذ موقف حمائي متزايد قد يؤدي الى إجراء مشابه من قبل الصين التي تمثل سوقاً مهماً لهذه الشركات. حيث تدعو هذه الشركات أن تستثمر الحكومات بشكل أكبر في البنية التحتية لشحن السيارات وتقديم حوافز مالية أفضل للسيارات الكهربائية.
دخول السعودية سباق صناعة السيارات
يمثّل هذا التطور فرصة كبيرة للمملكة العربية السعودية لترسيخ مكانتها كلاعب أساسي في سلسلة القيمة الدولية لصناعة السيارات. تعد صناعة السيارات واحدة من القطاعات الاستراتيجية التي حددتها الاستراتيجية الوطنية للصناعة، حيث تلعب دوراً حيوياً في تحقيق أهداف التنويع الاقتصادي للسعودية ضمن رؤية 2030.
تم تحقيق تقدم كبير نحو تطوير صناعة سيارات محلية في المملكة العربية السعودية. حيث أطلق صندوق الاستثمارات العامة (PIF) علامة CEER، أول علامة تجارية للسيارات في المملكة، بالشراكة مع شركة هون هاي الصينية (فوكسكون). تهدف CEER إلى تصميم وتصنيع وتسويق مجموعة متقدمة من السيارات الكهربائية، مع التركيز على التنقل الإلكتروني وتكنولوجيا الاتصالات وتقنيات القيادة الذاتية. كذلك، وقعت PIF وشركة هيونداي موتور اتفاقية شراكة لإنشاء منشأة تصنيع في السعودية للسيارات الكهربائية وسيارات الاحتراق الداخلي، باستثمار يتجاوز 500 مليون دولار.11.
تجري كذلك جهود لتطوير المواهب المحلية كجزء من مبادرة السعودية لتوطين صناعة السيارات، حيث احتفلت أكاديمية السيارات الوطنية (NAVA) في أكتوبر الماضي بقبول أول دفعة من 210 طلاب، تم اختيارهم من بين أكثر من 28,000 متقدم.12تقع الأكاديمية في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، وتم إنشاؤها بالتعاون مع شركاء رئيسيين، من ضمنهم برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (NIDLP)، وصندوق تنمية الموارد البشرية (HRDF)، وشركتي CEER وLucid Motors، التي يملك صندوق الاستثمارات العامة حصة الأغلبية فيها.
تمتلك السعودية أكبر سوق للسيارات في الشرق الأوسط، حيث تم بيع حوالي 730,000 سيارة في عام 2023. ونظراً لزيادة تدفق الوافدين وارتفاع قيادة النساء للسيارات – اللواتي يشكلن 30% من مشتري السيارات في عام 2023 – من المتوقع أن تصل مبيعات السيارات إلى 870,000 هذا العام.13إلا أن مبيعات السيارات الكهربائية لا تزال محدودة، حيث تشكّل نسبة التملك أقل من 1%، مقارنة بحوالي 3% في الإمارات العربية المتحدة، وقرابة 10% في أوروبا، وحوالي 22% في الصين.14ومع ذلك، تستهدف المملكة العربية السعودية زيادة نسبة السيارات الكهربائية إلى 30% بحلول عام 2030 كجزء من التزامها الأوسع لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060.15.
مستقبل تقوده السياسات
يؤكد المشهد الحالي على الأهمية المتزايدة للسياسات الحكومية في تشكيل مستقبل صناعة السيارات حيث يتطلب التنبؤ بمسار هذه الصناعة متابعة دقيقة لتطورات السياسات والمبادرات الاستراتيجية الحكومية. هنالك عدة عوامل من التي قد تلعب دوراً رئيسياً في تحديد مسار صناعة السيارات.
المتطلبات التنظيمية السيارات الكهربائية
يبرز نقاش حول مدى جدوى المتطلبات الحالية للسيارات الكهربائية، حيث قد تفرض الأهداف الطموحة الحالية تكاليف كبيرة على شركات السيارات وتهدد استقرار ومستقبل القطاع. ونتيجة لذلك، يطالب العديد من الخبراء وقادة الصناعة الحكومة إعادة النظر في المستهدفات الحالية لإعطاء الصناعة مزيداً من الوقت للابتكار والتطوير والتكيف بفعالية.
السياسات الحمائية وإعادة تشكيل سلسلة التوريد العالمية
تعيد النزاعات التجارية وارتفاع السياسات الحمائية تشكيل الاقتصاد العالمي. مع توجه المزيد من الدول نحو تدابير خارج إطار منظمة التجارة العالمية، من المحتمل أن نشهد اقتصاداً عالمياً أكثر تجزئة تهيمن عليه الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف. ستكون الكتل التجارية التي تنجح في دمج سلاسل التوريد الخاصة بها لصناعة السيارات في وضع جيد للتنافس على المشهد العالمي.
الإعانات الحكومية والاستراتيجيات الصناعية
تعتبر الإعانات والرسوم الجمركية الأدوات الرئيسية التي تستخدمها الحكومات لتعزيز صناعات السيارات المحلية. ومع ذلك، لبناء صناعة سيارات تنافسية حقيقية، ينبغي النظر في خيارات أوسع من السياسات مثل تطوير بنية تحتية قوية – كسكك حديدية والطرق السريعة، والموانئ – وتقديم خدمات رئيسية مثل التدريب للقوى العاملة وتوفير الطاقة بسعر مناسب يمكن أن تكون فعالة للغاية في تعزيز النمو والمرونة في قطاع السيارات. حيث قد تساعد هذه المبادرات في تعزيز تنافسية القطاع على المدى الطويل وتطويره.
البحث والابتكار
نجاح شركات السيارات الصينية لا يعود فقط إلى تنافسيتها في الأسعار، بل أيضًا إلى قدراتها التكنولوجية المتقدمة. فقد أحرزت الصين تقدمًا كبيرًا في تكنولوجيا المركبات الكهربائية والابتكار في مجال البطاريات وتطوير البرمجيات، متفوقةً على العديد من الشركات التقليدية. وللحفاظ على القدرة التنافسية في هذا القطاع المتطور، يُعتبر الاستثمار المستمر في البحث والتطوير أمرًا ضروريًا. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الشراكات الاستراتيجية محورية لتبادل التكنولوجيا والمعرفة. على سبيل المثال، تعاونت فولكس فاجن مع شركة “Xpeng” الصينية الناشئة لتسريع تطوير المركبات الكهربائية منخفضة التكلفة، بينما تعاونت رينو مع جيلي لتعزيز تكنولوجيا محركات الاحتراق. هذه التحالفات تُبرز تحول الصناعة نحو الابتكار التعاوني كطريق للتقدم.8.
المراجع:
- https://www.whitehouse.gov/briefing-room/statements-releases/2021/08/05/fact-sheet-president-biden-announces-steps-to-drive-american-leadership-forward-on-clean-cars-and-trucks ↩︎
- https://www.irs.gov/credits-deductions/credits-for-new-clean-vehicles-purchased-in-2023-or-after ↩︎
- https://www.enecho.meti.go.jp/en/category/special/article/detail_199.html ↩︎
- https://www.bloomberg.com/news/articles/2024-10-16/stellantis-shipments-drop-20-as-ceo-works-to-trim-inventories ↩︎
- https://www.wsj.com/business/autos/ford-motor-to-pause-f-150-lightning-production-for-several-weeks-54d20269 ↩︎
- https://www.bloomberg.com/news/articles/2024-10-15/bmw-ceo-says-eu-combustion-engine-ban-is-no-longer-realistic?sref=w410vTyp ↩︎
- https://www.theguardian.com/environment/2024/oct/04/carmakers-ramp-up-pressure-on-chancellor-for-ev-sales-subsidies ↩︎
- https://www.bbc.com/news/business-65643064 ↩︎
- https://www.ft.com/content/b95f9a64-c582-4367-9645-6a7106357849 ↩︎
- https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_24_3630 ↩︎
- https://www.hyundai.com/worldwide/en/newsroom/detail/pif-and-hyundai-motor-company-sign-joint-venture-agreement-to-establish-new-automotive-manufacturing-plant-in-saudi-arabia ↩︎
- https://www.linkedin.com/posts/jerrytoddjr_aepaesaedaeuaepaehaerabraewaepaesaetaezaewaerabraepaesaetaehaexaeuaeyaer-activity-7256624052977463298-5X7g?utm_source=share&utm_medium=member_desktop ↩︎
- https://gulfnews.com/world/gulf/saudi/30-of-cars-sold-in-saudi-arabia-bought-by-women-last-year-1.102477401 ↩︎
- https://www.arabnews.com/node/2540276/business-economy ↩︎
- https://www.ic.gov.sa/industries-automotive/ ↩︎